ذكرياتي مع فقد بصري استعيدها بمحض الصدفة:



ليس من الممكن أن يستعيد الإنسان ذكريات محفورة بداخله وخصوصا أنه لا ينساها ذكريات عديدة مهما حاول الزمن ومهما كانت مشاغل الحياة لا يمكن أن يمحى جزء كبير من حياة الإنسان مهما كانت كثرة الأحداث ليس هذا وحسب بل أن أستعيد ذكرياتي من زاوية الطبيب الذي كان يتابع حالتي منذ اكتشاف أسرتي لفقد بصري وبعد مرور أكثر من 23 سنة يروي لي الطبيب رحلة أسرتي معي وكل هذا بمحض صدفة قدرية بحتة حكايتي سمعتها في أقل من ساعة بدأت بمقابلة وجملة اعتيادية يمكن أن أسمعها في أي مكان لكن في هذا المكان وفي هذا التوقيت فلا بد من أن تلفت هذه الجملة إنتباهي وما تبعها قصة عشتها بتفاصيلها وبكل معانيها بمحناتها قبل فرحاتها بسعادتها وحزنها.
اسمحوا لي أن أحكي هذه الحكاية وأكتبها بالعامية كما حدثت بالضبط.

كنت في مستشفى الرمد المهم طفل مع والدته عمره تقريبا 4 سنين الولد عنده مشكلة في القرنية في عينيه الاثنين وقالوا لها إنه محتاج عملية عاجلة قالت وهي بتتمتم جنبي إنها نفسه يشوف على شان يبطلوا العيال اللي من سنه يعايروه ويتتريقوا عليه استوقفتني الكلمات حقيقة لقيت نفسي غصب عني بأدمع وافتكرت أمي الله يرحمها اللي مخلتش في جهدها جهد وهي بتحاول تلاقي أي أمل ممكن يوصلها إني أشوف وقدرت أعرف السبب اللي خلاها هي ووالدي العزيز يوافقوا إني أعمل عملية في عيوني وأنا لسة متميتش 40 يوم حتى وهم مش واثقين في النتيجة منها.
من هنا بدأت قصتي ومن نفس تلك البداية أو ما يشبهها إلى حد بعيد نعود لباقي القصة.

بالصدفة قابلني دكتور عيون أعرفه وأنا قاعد دا كان لسة متخرج جديد وأنا صغير وهو اللي كان بيتابع حالتي لحد سن 6 سنين أنا شبهت عليه من صوته ناديت عليه جاني في البداية مفتكرنيش لما فكرته باسمي وحالتي ابتسم وقالي لسة صورتك وأنت طفل هي اللي في ذهني اخدني ودخلني مكتبه وحكينا كتير.

كم كنت أتمنى أن أسمع حكايتي من زاوية تمتلك الصورة المكتملة عنها صورة عكسية تماما بها كل الحيادية والموضوعية والشفافية بدون مجاملات أو حتى أية عاطفة بعد دخولنا المكتب كانت تمتلكني حالة من الفضول ضخمة جدا أردت أن أعرف عن حالة فقداني لبصري كل شيء وإن كنت أعلمها ولكن هنالك دائما تفاصيل غائبة لم أعرفها وكانت الصدفة هي الوسيلة الوحيدة لكي تكتمل لدي الصورة من كل جوانبها إلى باقي الحكاية.

حكينا في أنه كان عارف إن العتامة اللي على عيوني كان حجمها أكبر وأسمك من الطبيعي وإن العملية اللي اتعملت أثرت على نمو عيوني بشكل طبيعي وحتى لو كانت متعملتش كان نسبة إن العين بنموها تذيب العتامة كان شبه مستحيل لأن العيون نفسها كانت مش كاملة النمو الطبيعي أثناء وبعد الولادة لقيت نفسي بسأله سؤال تلقائي وعفوي طيب والدي ووالدتي كانوا عارفين الحقيقة دي كلها قالي بإجابة دبلوماسية بحتة هم كانوا بيحاولوا يتعلقوا ولو بجزء من فرصة على شان أنت تشوف كانوا متمسكين بدا بشكل كان ملفت للنظر سألته ولما وصلت سن ست سنين كان ايه رد فعلهم ساعتها رد وقالي من وأنت عندك حوالي 3 سنين وكم شهر كان دا بداية اقتناعهم إنهم عملوا اللي عليهم بكل طاقتهم وعليهم إنهم يتقبلوا الواقع الملموس ويتعاملوا على أساسه معاك لأنه ليس في الإمكان أكثر مما كان سألته سؤال فضولي هم راحوا لاستشاري نفسي أو حاجة زي كدة لقيته جاوبني بتلقائية قالي أيامها ولحد دلوقتي معندناش هنا في الصعيد دكاترة نفسيين في المجال دا وهو تأهيل الأسر بالتعامل مع ولادهم اللي عنديهم إعاقات أو مشاكل سمعية أو بصرية وغيره ابتسمت له إبتسامة عفوية جدا قالي فهمت قصدك من الإبتسامة دي وردي عليها هم تعاملوا معاك بشكل تلقائي بدون أدنى خبرة مسبقة عنديهم ولا حتى مكانش فيه كتب في المجال دا أقولك إنهم أعتمدوا عليها أو رجعوا لها أساسا كانت بتواجهنا مشكلة وحدة بس أيامها هي إزاي حنقدر نوصل لك حقيقة إنك فاقد لبصرك وخصوصا إن حاجة زي كدة هي اللحظة الأصعب على أي أب وأموالمشكلة الأكبر اللي ظهرت معهم هي إنك عاوز تستمتع بحياتك كطفل عادي وميعرفش أنه مش شايف وكمان إنك حتبقى معرض لسخافة الأطفال اللي من سنك واللي يقربولك أو في دائرة معارف الأسرة اللي لازم طبعا تتعامل معاهم ودا كله عاوز تأهيل نفسي لوالديك ولك على حد سواء.

شغفي الشخصي زاد أكثر فأكثر وبدأت أصفي ذهني تماما لكي استمع لحكايتي بتركيز شديد وبإهتمام أكثر بل في الحقيقة بإهتمام كبير جدا لدرجة أنني لم أنطق بحرف واحد وإلى باقي الحكاية.

إبتسمت وهزيت دماغي إيحاء له إنه يكمل كلامه اللي كنت مستمتع بيه الحقيقة لقيته بيقولي إندهشت بعد خمس شهور كان سنك ساعتها أربع سنين وشهر على ما أتذكر لما لقيتك بتقولي عمو الدكتور أنا عارف نفسي مش بشوف وعارف إن دا مش حاجة ليا ذنب فيها وإنها مش مشكلة فيا دي حاجة عادية بتحصل لناس كتير ممكن تغير لي القطرة دي اللي طعمها مر لأني مش بحبها لما بتنزل من جوة عيوني لبقي قالي وقفت لمدة من الزمن مش عارف أرد عليك أقولك ايه لقيتني غصب عني بشيلك وبحضنك وأنا عيوني بتدمع وبقولك ربنا يصبرك ويخلي لك والديك اللي قدروا يتحملوا ألم مصارحتك بحقيقة أنك مش بتشوف أنا كدكتور كنت محتار أقولك دا إزاي وخصوصا إنك طفل ودا صعب عليك إنك تستوعبه وإن استوعبته محتفهموش الأدهش لقيتك بتمسح لي دموعي وبتقولي بتعيط ليه مفيش حاجة تخليك تعيط اللي بيعيطوا وحشين وأنا مفييش حاجة على شان تعيط بسببها قالي لحظتها ضحكت سألتهم على انفراد إزاي قدروا يعرفوني دا وجبت منين الكلام دا كله اللي قلته له لقي والدي قاله كان لازم أصارحه بالحقيقة لأن العيال كانوا بدأوا يقولوا له إنه أعمى ومينفعش يلعب معهم وهو سألني على ايه أعمى دي قال الدكتور لوالدي طيب ورد فعله لما شلته وعيطت قال لأن دا نفس رد فعل أمه وأنا بتكلم معاه فرديت عليها بنفس الرد قدامه وهو قالهولك زي ما أنا قلته بالضبط.

انتابتني عدة أسئلة بداخلي وهو يسرد لي أحداث قصتي وحاولت أن أنظمها وأرتب الأسئلة ووجدت نفسي أسأله هذا السؤال.

سألت أنا الدكتور بقوله لسة متذكر الحوار دا كله على الرغم إنه عدا عليه 23 سنة تقريبا؟ قالي أيوة لأنك كنت أول حالة عندي وأغربها وأعقدها من كل النواحي سألته ليه؟ قالي بعدها بشهر وشوية لقيتك جايني دماغك مربوطة وواخد غرز والعجيب إن والدك كان جايبلك كرة قدم وكنت بتلعب بيها فسأل هو والدي عن سبب الإصابة فقاله كان بيحاول يطلع من البيت لوحده فخبط في الباب الحديد فراسه اتفتحت قاله وإيه علاقة الكرة دي بالموضوع قال له كان نفسه يطلع يلعب كرة مع العيال وجبتها له على شان بعلمه يلعب بها على شان لما يحب يلعب مع العيال يرضوا يلاعبوه للحظات لما الدكتور وقف كلامه لقيتني بتأمل فيه وسرحت مع الكلام دا وبدأت استرجع ذكرياتي اللي منستهاش لقيته بيقاطعني وهو بيقول إن والدتك كانت معارضة دا كله مع أنها كانت من جواها موافقة عليه بس خوفها وتعلقها بيك كان مخليها رافضة طريقة تعامل والدك معاك بمنتهى البساطة وأن مفيش حاجة تمنعك إنك تعمل اللي أنت عاوزه طالما لقيت حاجة بديلة تقدر تخليك تعمله بس خلال سنة الخوف والقلق عليك اللي كان جواها شبه إختفى بعد ما لقيت نتايج كويسة وأفتكر إن لما لقيتك داخل عليا المكتب لوحدك في مرة وهم وراك وماسك في يدك عصاية خشب صغيرة لقيتني بتلقائية بجري عليك وبشيلك وبأقولك وأنا بضحك يسلموا اللي خلوك تعرف تتحرك لوحدك وأنت ضحكت وقلت لي هم جايين ورايا قولهم دا بنفسك مكانش ساعتها ممكن نسمع أو نعرف عن حاجة اسمها العصاية البيضة ولا حتى منتشرة معلومات عنها ولا ثقافتها ومش حخبي عليك ولحد دلوقتي لسة مدخلتش في ثقافتنا المصرية بشكل كبير مع إن عدد الناس اللي عنديهم إعاقات بصرية كبير كمل كلامه وقال يمكن متكونش أنت فاكر الكلام دا لقيتني بابتسم له وقلت له لا فاكره كويس وبأمارة أنك طلبت مني إني أمسكك من يدك وأنزلك الشارع وأوديك لحدالسوبر ماركت اللي على أول الشارع ويومها جبت لي مصاصة ولبان ورجعنا تاني قالي لسة فاكر التفاصيل الصغيرة دي قلت له أيوة لأنها متتنسيش لأن أول مرة كنت أمشي فيها مع حد غريب غير والدي أو والدتي قعد يضحك وقطع ضحكته وهو بيقول تصدق لحد دلوقتي مجبناش حاجة تشربها قلت له مش مهم المهم كمل كلامك قالي مع أني ليا سنين مقابلتكش بس لسة فاكر نبرة صوتي مع أنها أكيد تغيرت شوية بحكم السن قلت له بس التون بتاعها قاعد آاه بقي أكتر خشونة شوية بس النبرة الأساسية زي ما هي مع شوية تركيز وتحليل الصوت وإضافة عامل السن عليها ضحك وقالي يعني أنت عارف سني دلوقتي قلت له إن مكنتش غلطان سنك دلوقتي حوالي 45 سنة لقيته بيقولي وهو بيضحك تنفع إخصائي تسنين للناس قلت له مش بالضرورة لكن لازم أعمل سن تقريبي من صوت الناس على شان أعرف أتكلم معهم حسب السن وبأي اسلوب قالي مقاطعا لكلامي وقدرت تعمل دا إزاي قلت له اللي خلاني أعمل دا هو والدي نفسه قالي إزاي حكيت له إنه خلاني أركز مع الأصوات وبكل التفاصيل وأركز مع أصوات البشر وعلى فكرة صوت خطوتك متغيرتش عن أيام ما كنت صغير بس بقي جسم حضرتك فيه كرش أثر على قوتها وخلاها أوضح وفيها سنة بطء رد بضحك وأنا حأخس لك من بكرة وحأرجع لخطوتي القديمة على شان ترتاح أنت لو شايفني كان مستحيل حتقدر توصفني ولا توصف خطوتي زي ما بتقول قلت له أوافقك على كلامك دا ضحك وقالي آخر مرة شفتك فيها وهي اللحظة اللي عرف فيها أهلك إنه مفيش أمل إلا بعد سن 21 سنة لما نشوف العين حتكمل نموها ولا لا مع باقي جسمك طلبت منك تخرج برة على شان أكلم والديك لقيت ولأول مرة والدتك هي اللي رفضت وقالت هو عارف حقيقته وبيتعامل معاها بواقعية ومتفهم لها جدا لو عاوز تقول حاجة لنا قولها قدامه لأننا مخبناش عنه حاجة وهو متقبل لكل الاحتمالات مهما كانت وحيعرف يتعامل معها شرحت لهم الموضوع ولقيتك بتقولي بعد ما خلصت كلامي الحمد لله إننا عملنا اللي علينا ولحد كدة شكرا لحضرتك وأنا تعبت أبويا وأمي كتير حقهم بقى يريحوا نفسهم وينسوا الموضوع دا كله لأني أنا حنساه مالي أنا كدة زي الفل ومش ناقصني حاجة وبلعب وبعمل كل اللي أنا عاوزه يبقى أنا زيي زي أي حد ولقيتك بتقول لنا أنا نازل تحت مستنيكم وخرجت وأنت مبتسم إبتسامة رضى مشفتهاش في حياتي غير على وشوش والدك ووالدتك وهم نازلين وراك ولحد النهاردة نفسي أشوف الإبتسامة دي تاني سكت لثواني وقال أهي نفس الإبتسامة أخيرا شفتها اسمحلي آخد لك صورة على تليفوني وأحتفظ بيها متغيرش قعدتك ولا ابتسامتك أرجوك أخد الصورة وسلمت عليه ومشيت.

لن أكن مبالغا إذا قلت أنني استمعت لحكايتي ودور أسرتي وتعبهم معي وكأنني استمع لقصة شخص آخر لست أنا على الرغم بمعرفتي بتفاصيل كثيرة منها تفاصيل كونت واقعي الحالي بكل ما فيه من بداية اعتمادي على نفسي واستقلاليتي في حركتي ولا أنتظر من يساعدني أو أكون عبء على أحد.

شكرا لهذه المصادفة العجيبة وشكرا لكلمات تلك السيدة التي لا أعرفها ولا أعرف اسمها التي جعلتني استرجع ذكريات كثيرة.

شكرا أبي وأمي على تعبكم وتحملكم الكثير من المشقة والعناء من أجلي ومحاولتكم أن أكون قادرا على الرؤية بشكل طبيعي.

شكرا للطبيب الذي روى لي حكايتي من وجهة نظره هو وأنه لا يزال يذكرها للآن.

في النهاية أعتز وأفخر جدا بكوني شخص أعمى ولولا والدي ووالدتي كنت سأصبح شيء منسيا في هذه الدنيا أنحني إليكما تقديرا وإحتراما وإجلالا لدوركما العظيم والرائع معي وإلى لقاء آخر من حكاياتي.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عامان على وفاة ست الحبايب:

تحية لمن تكافحن في صمت:

معلومات خاطئة عن طريقة برايل: