مداح القمر

لعل جملة مثل مداح القمر كفيلة إلى أن تجذب أذناي جذبا فلعل فكرة مدح القمر في حد ذاته جملة لها من الفصاحة اللغوية والدلالة البلاغية ما يكتب فيه صفحات من أهل اللغة المختصين ولست منهم بالطبع.

 

حينما يأتي المساء كنت صغيرا حينها طالبا في الثانوية العامة وتلك اللحظة الخاصة جدا التي أنفرد فيها بجهاز الراديو المدمج بجهاز الناشونال الأسود أو الأحمر الملقب بالخرفشة ذاك الراديو والكاسيت يعرفه الكثيرين ممن عاصروا تلك الفترة في التسعينيات وحتى قرب نهاية العشرية الأولى من قرننا الحالي قبل انتشار مشغلات الموسيقى المحمولة سواء أجهزة mb3 وما على شاكلتهما وبالطبع قبل توفر تلك الهواتف المحمولة الداعمة لتشغيل وسائط سواء صوت أو فيديو، كان ذاك الجهاز هو رفيقي في ليالي السهر الطويلة وبالطبع التي كانت تبدأ مبكرا نوعا ما بعد الثامنة مثلا، وكانت تلك الفترة بين شهري بداية أبريل وحتى يونيو مع بدايات طول النهار وقصر الليل، أحضر كتابي البرايل ومكتبة الكتابة بطريقة برايل لكتابة ما أحتاجه من معلومات للتدوين بشكل مكتوب حيث أنه غير متاح بالبرايل طبعا وضع الخطوط أو عمل هوامش في الكتب كما يحدث عند المبصرين،

لكن توصيل فيشة الكهرباء الخاصة بالكاسيت كانت هي الأولوية الأولى وبعدها ضبط مؤشر fm على إذاعة الأغاني حتى قرب منتصف الليل وأنتقل لموجات am للبحث عن إذاعة راديو سوا حتى 2 فجرا والعودة مرة أخرى إلى موجات fm ولكن هذه المرة لإذاعة البرنامج العام، ولعاداتي مع الراديو تفاصيل لعلي أكتبها مرة بشكل مفصل،

بالنسبة لي كانت إذاعة الأغاني مصدرا غنيا جدا لمطربين سابقين لمولدي ولسماعياتي حتى استوقفتني جملة من مذيعة الهواء والتي أعتقد أنها الأستاذة منال محمود إن كنت قد كتبت اسمها خطأ فهذا من خيانات الذاكرة.

 

سرح الخيال للحظات فيما يمدح القمر وكيف يكون المديح في ليالي الصبر والسهر.

تبدأ الأغنية بالتصفيق الحار من قبل الجمهور وذلك بالطبع لظهور حليم بخطواته المنتظمة على المسرح ويقدم الأغنية ولعلها كانت الوصلة الثانية للتسجيل الذي سمعته لها حيث أنه لم يقدم الفرقة الموسيقية كما يفعل، بعدها يدخل الجيتار برنات تسرق الاستماع لما هو يحدث ويشاركه الأوكرديون والسيكسافون وصلة موسيقية وترد عليهم الكمانجات ثم صولو الجيتار منفردا والرد يأتي أيضا من الكمانجات لكن بوتيرة هادية بدون إيقاع ، الإنفعال العنيف للحظات للجيتار لتمهيد دخول الإيقاعات بالنقلة الراقصة والتي تدعو المستمعين للتسفيق معها وتنتهي المقدمة هذه بنفس بداية ذاك الصولو الثلاثي السابق ثم يمهد الجيتار والكمان النقلة لصولو آخر من الكيبورد أو الأورج، ثم ننتقل لتقديمة هادئة تماما بوتيرة حزينة للغاية بين الجيتار والكمان على إيقاع هادئ الرتم ثم اشتراك باقي الفرقة والنزول إلى بداية تقسيمة حليم.

"عاشق ليالي الصبر مداح القمر عشق العيون السمر غواني السهر".

وهنا انتهت كل تساؤلاتي عن ذاك العنوان ولكن من ناحية أخرى كانت الموسيقات والتوزيعات قد أخذتني لجانب آخر وهو التلحين البسيط والمرن من بليغ حمدي وتوزيعها على هذه الكلمات وحتى توزيع الآلات الخ .

"قدك المياس يا عمري أيقظ الإحساس في قلبي أنت أحلى الناس في نظري جل من سواك يا عمري"

لعل حليم غناها منفردا في البداية بشكل أعتبره لم يكن بسيطا لكن بشكل يملأه الشعور بمايقال، ولكن كان توزيع الكورال النسائي والرجالي فيها وبطريقة تلحينية عن ما قيلت به وبالأخص أداء الكورال النسائي والقفلة بالكورال الرجالي.

لعل طريقة بليغ في تلحين هذه الأغنية كان بسيطا بطبيعة ألحانه لكن رغم تلك البساطة كانت مليئة بالتفاصيل التي تجعل الأذن كاملة الإنتباه حتى أنني أذكر أنني تحولت إلى الكتابة والنقر على الورقة في الكتابة برايل وكأني أصنع من تلك التكات البسيطة إيقاعا لما اسمعه.

 

من أكثر أغاني حليم التزاما من الجمهور فلم تأتي تلك الصيحات التي في سواح مثلا أو زي الهوا وكأنني في البداية استمع إلى أم كلثوم حتى أن التصفيق مع الكورال لم يكن موجودا حتى إنتهاء الوصلة،

مع الإنتقال إلى المسمع الثاني وعلى موسيقى راقصة يضعها بليغ كالعادة مع الشطر الثاني هاج الجمهور بالتصفيق لثواني وتفرغوا لسماع اللحن بنفس الهدوء وهذا شيء غير يتوقع من جمهور حليم خاصة في التلحينة الراقصة وعند تكرارها من بدايتها يصحبها تصفيق ردا على تلك الإعادة المليئة بالعديد والعديد من الصولوهات وخصوصا صولو الناي.

"يا شعر ليل يا ليل يا ليل وفارد ضفايرك على القمر..." ذاك المسمع موسيقيا وتلحينيا يكفيك بأن تحس وكأنه قلب ما ينبض ويحكي بتلك الكلمات عن من أحبها هذا القلب الساهر بعيون يملأها الخيال الواصف مع الكلمات، وإن أردت أن أضع مشهدا واصفا لخيالي مما أسمعه فقد من الممكن أن أقول هذا الشاب السارح والشارد عن من يحيطه وحديثا يدور بينه وبين نفسه، أو هذا الذي ينظر إلى السقف سارحا ومبتعدا عن ما قد يعكر صفوه قبيل نومه ويتحدث خافتا، هنا سأتوقف قليلا عند توزيع الكورال الرادد ببعض الكلمات المكررة في هذا المسمع وهو بدلالة لا أعلم مقصدها كان هكذا أو أنها محض خيالات مني كمستمع وهو أنه الحوار كان ضمنيا وبالموافقة بين شقي الحوار القلب بخفقانه وحكايته والعقل السارح في هذا الخيال الذي يحاول أن يصورها كصورة ترى ويشرد معها الذهن والعين.

ذاك كان المسمع الثاني الذي رفض حليم إعادته كما فعل من قبل معللا للجمهور بأن الأغنية لسة طويلة.

 

يبدأ لحن الصراع بين دفتي الحوار لإيصالنا إلى ذروة الاهتمام بما سوف يحدث وانتباهنا للمشهد الذي يمكن تخيله بقوة هنا سواء انبهارا وإعجاب بكل شيء وصولا للغيرة منها.

"عيني يا عيني عليكي كل القلوب بتدوب حواليكي".

ويبدأ هذا الإنبهار بها وغيرة واضحة في طريقة الحديث النفسي الغائر بالداخل يشوبه قليلا من اللوم من الطرف الآخر المتحاور داخليا مع تكرارا واضحا لهذه الجملة بشكل موسيقي يهيؤك للحظة العتاب واللوم القاسية.

"بشوفك بس بعيون غير عيون الناس وبحبك بكل ما في القلب من احساس"

تلك الرؤية التي يعتقد ذاك الشاب بأنه يرى في عيونها مسحة حزن وسط ضحكة عريضة لتواريها خلفها وكأنه يواسي نفسه بأنه يحبها حب غير كل من حولها ومدى شعوره بيها، وتبدأ هنا الغيرة الصحيحة من الموسيقى ورد العقل على النفس والقلب بأنه كان يتمنى أن يوصفوها من حولها بعيون قلبه هو،

وبدون لحظة تفكير يقرر إعادة هذا المسمع عكس سابقه وكأن لحظة إفشاء الحب بين العقل والقلب كانت لحظة لم تعاد ولا ذاك الحوار كان كفيلا بإقناع شقي النفس بما وقر في القلب والعقل وكأن الغيرة والصراع أقوى من التفكير فيما قد وقر بشكل كامل في النفس.

 

ثم ننتقل للوصلة الأخيرة والمسمع الأخير المليئ من مقدمته الموسيقية وصولوهاته بالأفراح واللحن المبهج والحوار المليئ بالسعادة في تلك الصولوهات التي تحيلنا لمدى سعادة هذا الحوار في الكلمات القادمة.

"موال عاشق بقيت موال وقصتي بتنقال..."

يبدأ الكلام على لحن سعيد كما بدأنا هذا الصولو للمقدمة ويتبعها محاولات بسيطة من عبد الحليم في التقاسيم والتفريدات لهذه الجملة قدرا المستطاع منه لتأكيد على المعنى المنشود إيصاله من الكلمات، وهنا بعد الموال نعود للغناء مع التغطية من الفرقة من "قالوا في الموال". وهنا تبدأ رحلة حكيه بين القلب والعقل، أو النفس والعقل في موسيقى معبرة عن فرحته براحة القلب وفرح النفس بتلك التي وصفها بالقمر في البداية وكأنه يستعد لشرح ما أصابه بأنين موسيقي ملحوظ للتعبير عن كم ما عاناه مع قلبه ورفضه الاستحالة ووصولا للحظة الفرح تلك مصحوبة بأداء لحني معبر عن لحظة مطاوعة الحب له وكأنها تلك اللحظة هي مسار مختلف تماما عن كل ما سبق وتلك اللحظة هي التي توقفت فيه الإيقاعات تماما حتى عادت مسرعة الوتيرة كنبضات القلب المسرعة المليئة باللهفة حتى تأتي خاتمة الأغنية بالنهاية السعيدة المنتظرة منذ بداية القصة التي كانت منتظرة مع ذاك الخيال الجميل والكلام الهامس بين النفس والعقل.

مشاهد ما بين الغناء واللحن والموسيقى مصحوبة بخيال مستمع آثرته الأغنية حتى منتهاها وكأنها تشرح حالة حب فريدة نهائها مع صولو حليم مع آاه الكورال النسائي العازف كالكمانجات والإنتقال للكورال الرجالي يغني معه كحوار ثنائي حتى إنضمام الكورال النسائي لهما في محاولة لرسم صورة بديعة منتقاة بعناية توزيعيا موسيقيا رهيب.

"قدك المياس يا عمري أيقظ الإحساس في قلبي أنت أحلى الناس في نظري جل من سواك يا عمري".

هكذا كانت نهاية لهذه المشاهد السابقة وكأن القصة انتهت كما تمنى القلب في النهاية بعد رحلة مليئة بالخيال والموسيقى العذبة الواصفة بدقة لتلك المشاعر والكلمات.

ملحوظة: كل هذه السطور من خيال مستمع ليس متخصصا في الموسيقى ويحب أن يرى الأشياء بخياله كما يتمناهى أن تحدث أو يتصورها من خلال صورا يضعها في ذاكرته من محض الخيال ليس إلا عزيزي القارئ عزيزتي القارئة أعتذر عن تلك الإطالة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عامان على وفاة ست الحبايب:

تحية لمن تكافحن في صمت:

معلومات خاطئة عن طريقة برايل: