من يوميات كفيف



أثناء تمشيتي:
منذ قرابة شهر كنت قررت أن أقوم بالذهاب لعملي والعودة منه سيرا على الأقدام وإن كنت أتوقع مسبقا ما الذي يمكن أن يحدث جراء هذا القرار مع الوضع في الإعتبار أنني أتمشى نحو نصف المسافة والنصف الباقي استقل ميكروباص وتحدث لي أمور أثناء سيري بشكل يومي حتى صارت تلك الأمور معتادة على مر الأيام والشهور الماضية ولكن عندما قررت أن تكون كل المسافة المقدرة بنحو 8 كيلو تقريبا سأقطعها سيرا على الأقدام كان هذا القرار راجع لأهداف أردت تحقيقها منها خسارة وزن واستعادة لللياقتي البدنية وممارسة للرياضة ولو على سبيل المشي الجزء الأول من المسافة أصبحت شخصا إعتياديا تراني الناس فيه سواء أثناء الذهاب أو العودة أو لكثرة إرتيادي لهذا الطريق حتى يوصلني لأقرب ميكروباص استقله لأذهب به إلى أي مكان بالمدينة أما القسم الثاني فأعتبرتها مغامرة ممتعة سواء على صعيد التمشية في حد ذاتها أو المواقف التي ستحدث من بعض المارة بجواري وخصوصا أنهم مزيج من المارة طلبة مدارس وجامعات وموظفين بمصالح حكومية أو مستخدمين الدراجات العادية أو البخارية وراكبي السيارات على مختلف التصنيفات، منذ اليوم الأول وأنا أستمع لهمسات المارة بجواري إما استغراب أو استنكار أو حتى تساؤلات وبالطبع طالما أنني اتخذت هذا القرار فكنت مضطر لوضع بعض المحاذير أثناء المشي منها أن لا أعير أي ردود أفعال أي إهتمام وأن أظل مبتسما مهما حاول أي أحد تعكير صفوي واستمتاعي وأن أتحمل السخافات مهما كان الأمر وأن أجيب على قدر المستطاع على أية أسئلة إن وجهت لي بالطبع وليس لي أدنى علاقة بأحاديث الآخرين عني ططالما أن الحديث لم يوجه لي بشكل مباشر وبما أنني وضعت هذه المحاذير فتعاهدت بأن لا أخالفها مهما كان الأمر حفاظا على متعتي وسلامي النفسي وإحتراما للآخرين ولي.
كما هو متوقع ومنذ اليوم الأول بدأت رحلة المتعة مع سيل من الإنتقادات والتحفظات بل وزاد الأمر بتوجيه تساؤلات لي صريحة وبشكل مباشر وقد وصل الأمر بالطبع لإعتراض بعض المارة وقائدي المركبات لطريقي إما لإختباري أو لتوجيه أسئلة تحمل أنواع عديدة من نبرات الصوت منها ما هو تعاطفي بحت ومنها ما هو استنكاري وبنبرات حادة ومنها ما هو استفهامي تعاطفي ومنها ما هو لتقديم المساعدة حتى لا أضل الطريق.
لم يكن الأمر صعب لأنني ببساطة قررت أن أسلك نفس طريق الميكروباص المعتاد وبما أن مدينة سوهاج صغيرة فمن السهل حفظها بما يكفي لكي أتجول فيها بشكل عادي وبدون أية صعوبة تذكر، ولكن كانت الصعوبة الحقيقية هي ردود أفعال الآخرين بجواري أثناء مشيي.
ليست الصعوبة مني على الإطلاق ولكن مدى تقبل البعض لذاك الشخص الذي يمشي على قدميه وأمامه عصى بيضاء منفردا بدون أي شخص معه مصطحبا إياه أثناء سيره بمعنى أدق لا يوجد معي مرافق يقتادني من يدي حيثما أشاء أو يشاء هو.
مع وجود كل هذا أعطاني حماس بأن أستمر في الأيام المقبلة لأنني وجدت تسلية رائعة بجانب متعة المشي وهي التعرف على إنطباعات الآخرين عن قرب أو محاولة لكسر تلك الصورة النمطية التي خلقتها ثقافتنا المجتمعية المغلوطة عن الكفيف مع أن هذا لم يكن في حسباني من البداية في الحقيقة.
بالطبع ولا أخفي عليكم كنت أضع في حسباني أنني سأواجه عوائق عدة في الطريق ولذلك وضعت استراتيجية خاصة تحسب لها وهي أن لا أمشي على الرصيف مهما كان الأمر وإلا فعلي الاستعداد لعدد لا محدود من العوائق التي ستعترضني وبالتأكيد ساصطدم بها سواء الأشجار أو أعمدة الإنارة أو أن الأرصفة في حد ذاتها لا تصلح من الأساس للمشي عليها إما لكثرة التكسير بها أو وجود بالوعات بها بدون أدنى شك أغلبها مفتوح ولكم أن تتخيلوا باقي الموقف إن كانت هناك بالوعة مفتوحة أو مرتفعة عن مستوى الرصيف، المشي بمحاذاة الرصيف مع ترك نصف متر على الأقل بيني وبينه لوجود عوائق إما أحجار أو سلاسل مربوطة بمواسير موضوعة بالشارع، أما السيارات المتصافة بجوار الأرصفة فالعصى البيضاء كفيلة بها بلا أدنى شك لكي أتجنبها بما يجعل من المشي بمفردي أمر سهل.
أما على صعيد المواقف التي تعرضت لها فسأذكر منها ما هو شائع أو الذي أثار دهشتي أو ما أعتبره أول مرة يحدث لي على الإطلاق هذه المواقف بشكل يومي ولكن سأذكر منها ما جعلني أضحك من كل قلبي ومنها ما جعلني أدهش بدون أن أجد أي رد نهائيا أو ما جعلني أستعجب من بعض الناس.
على سبيل الشائع همسات من يتجادلون خلفي عني ولماذا بيدي عصى لونها أبيض لكونها بالطبع غير معتادة بالنسبة لهم وهمسات أخرى عن جدلية هل أنا كفيف أم أدعي العمى لطلب مساعدات مادية بشكل غير مباشر وأخرى عن كوني أمشي منفردا وليس معي من يرافقني ولماذا أتمشى بمفردي من الأساس.
وعلى سبيل إثارة دهشتي أذكر موقفا لطيف جدا حدث لي منذ بضع أيام وكان أثناء مروري بإحدى لجان المرور وكانت لجنة على ما يبدو كبيرة عندما اقتربت من اللجنة قمت بإبعاد القمع الموضوع في طريقي بالعصى البيضاء مما أضطر أحد الأفراد الموجودين باستيقافي وسألني عن ما فعلته فأجبته بإبتسامة "على شان مأخبطش فيه وأقع على الأرض" فاستطرد معي الحديث عن من أين أتيت وإلى أين سأذهب وبالطبع أجبته فاستدعاه هذا بأن يقول لي "وعليك بأيه ما كنت ركبت أي ميكروباص ولا أقولك استنى كلم الباشا" أتى لي فرد آخر أعتقد أنه أحد ضباط اللجنة فسألني عن اسمي الخ ثم قال مبتسما "عجبني أسلوبك في ركن القمع بعيد عن طريقك حتى أن القمع موقعش على الأرض محتاج مني أي مساعدة أو أوقف لك ميكروباص أو تاكسي يوصلك مكان ما أنت رايح" بالطبع شكرته وقلت له أنني أريد أن أتمشى فقال ضاحكا بنبرة ساخرة بعض الشيء "سبحان الله ضرير ومش عاوز يريح نفسه عليك بأيه أنا عاوز أريحك أنت اللي عاوز تتعب نفسك اتفضل ربنا يحرسك ويستر طريقك"
الموقف الذي جعلني أصاب بهستيريا من الضحك كان من قرابة أسبوع عند عبوري للطريق من الناحية الشرقية لكوبري أخميم وعند دخولي للكوبري قمت بطي عصايتي البيضاء لأني أمشي على رصيف الكوبري مثلما يمشي الآخرين بجواري ولأن الكوبري أمان طالما أنني أمشي على الرصيف وحفظي للكوبري بالطبع وعندما وصلت لمنتصفه قررت أن ألتقط بعض الصور للنيل من فوقه والتقطت صور لي على بعد بضعة أمتار سمعت صوت سيارة وقفت ونزل منها أحد الأشخاص لم أعر الأمر أي إهتمام وأكملت مشيي بعد أن إنتهيت من إلتقاط الصور التي أردتها وعند وصولي لهذا الرجل الذي نزل من السيارة أحسست بشيء ممدود أمامي فتوقفت فوضع يده التي كان يمدها جانبا لإعتراضي على كتفي وسألني عن "أنت منين" فأجبته فاستطرد في الأسئلة "جاي منين ورايح فين" بعد الإجابة سأل "بتشتغل ايه في الجامعة وليه ماشي لوحدك ومركبتش مواصلات وكنت من شوية بتعمل ايه" وعندما أجبته عن سؤال طبيعة عملي صمت قليلا وسألني في حالة من الذهول الشديد "ايه البتاعة المطبقة في يدك دي وليه لونها أبيض وايه اللي في الشنطة اللي على كتفك" توقعكم صحيح فهو كان يستفسر عن العصى البيضاء وأجبته وبكل سرور وبهجة ثم قال "ممكن بطاقتك" وهنا قلت له "بالتأكيد ممكن بس مش لما أعرف مين حضرتك الأول" وهنا أجابني بنبرة مليئة بالثقة مع الاستغراب من السؤال "أنا رئيس مباحث المسطحات المائية" وعندما أخرجت له البطاقة قمت بخلع نظارة الشمس وبعد لحظات أعطاني البطاقة وصافحني وغادر وهنا أصبت بنوبة ضحك ولا أعلم السبب لاحظت أن خلال حديثنا الذي مر عليه أكثر من خمسة دقائق أنه لم يمر أحد بجوارنا من المارة والذي اكتشفته أن من كانو قادمين خلفي أو أمامي جميعهم توقفوا ووجدت أسئلة من نوعية "هو كان عاوز منك ايه ووقف لك ليه وليه شاف بطاقتك وليه سابك ومشي مخدكش معاه ليه في البوكس" أجبتهم وأنا أضحك في الحقيقة.
أما على سبيل الاستغراب والدهشة يحضرني موقفين الأول وأنا أنتظر فتح إشارة المرور للجهة التي أسير معها حتى أعبر الطريق وبعد عبوري وجدت عسكري المرور يسألني مندهشا "يا أستاذ أنت معديتش ليه أنا بشاورلك من قبل ما تفتح الإشارة عدي وأنت متسمر في مكانك" وهنا لم أجد رد بصراحة أما الموقف الثاني على بعد أمتار قليلة مني وقفت سيارة على اليمين وفتحت سائقتها بابها وتركته مفتوح فاصطدمت به عصايتي البيضاء فقالت على الفور "مش تفتح ولا أنت عميت يعني" ابتعدت عن باب السيارة ثم خلعت نظارتي الشمسية ووجهت وجهي تجاهها وإبتسمت وأكملت طريقي فنزلت من سيارتها ولحقت بي وهي على جملة واحدة "أنا آسفة جدا أرجوك تقبل إعتذاري أنا مأقصدش ومخدتش بالي منك" هززت رأسي مبتسما وأكملت طريقي.
في النهاية وبعد سرد كل تلك المواقف لا أجد تعليقا عليها مني أبلغ من التعليق الذي أفعله الآن وهو الإبتسامة العريضة.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عامان على وفاة ست الحبايب:

تحية لمن تكافحن في صمت:

معلومات خاطئة عن طريقة برايل: